مقدمة: فصل غائب من تاريخ العبودية
حينما يُذكر مصطلح "العبودية"، غالبًا ما تتجه الأنظار إلى أفريقيا جنوب الصحراء وتجارة الرقيق نحو الأمريكيتين. لكن هناك فصل من التاريخ أقل شهرة، وهو استعباد الأوروبيين البيض في شمال إفريقيا، وخاصة من قبل القراصنة البربر بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر. إنها قصة حقيقية، مُغيبة عن أغلب مناهج التاريخ، تكشف عن وجه آخر للعلاقات المعقدة بين أوروبا والعالم الإسلامي.
من هم القراصنة البربر؟
"القرصنة البربرية" هو مصطلح أطلقه الأوروبيون على القراصنة الذين كانوا ينشطون في سواحل الجزائر، تونس، وطرابلس (ليبيا حالياً)، والمعروفة حينها باسم "ساحل البربر". هؤلاء القراصنة لم يكونوا مجرد عصابات بحرية، بل كانوا جزءًا من أنظمة سياسية قوية خاضعة للخلافة العثمانية، يديرون عملياتهم من موانئ محصنة وبدعم رسمي في كثير من الأحيان.
كيف كانت تتم عمليات الاختطاف؟
كان القراصنة يغيرون على السفن الأوروبية في البحر الأبيض المتوسط، وحتى على سواحل إنجلترا، إيرلندا، وإسبانيا. بل وصل الأمر إلى غزو بلدات ساحلية واختطاف سكانها، كما حدث في قرية بالتيمور الإيرلندية عام 1631 حيث تم أسر نحو 100 شخص. بعد الاختطاف، كان الضحايا يُجلبون إلى أسواق العبيد في شمال إفريقيا ليُباعوا كخدم، أو يُستخدموا كعمال في مشاريع الدولة، أو يُحتجزوا مقابل فدية.
الحياة كعبد أبيض في شمال إفريقيا
لم يكن مصير العبيد الأوروبيين سهلاً. بعضهم عمل في التجديف في سفن القراصنة، وهي وظيفة شاقة ومميتة. آخرون اشتغلوا في ورش البناء أو كخدم في القصور. غير أن بعض المحظوظين استطاعوا شراء حريتهم أو أُفرج عنهم بوساطة من منظمات دينية أوروبية كـ "جمعيات الفداء" التي كانت تجمع التبرعات لتحرير الأسرى المسيحيين.
أعداد تثير الدهشة
بحسب بعض التقديرات التاريخية، تم أسر ما بين مليون إلى مليون ونصف أوروبي بين عامي 1500 و1800. بعض المصادر تصف هذه الظاهرة بأنها شكل من العبودية العكسية التي قلبت الصورة النمطية للعلاقات بين أوروبا وأفريقيا.
دوافع اقتصادية وسياسية ودينية
القرصنة لم تكن فقط وسيلة للثراء، بل كانت أيضًا أداة سياسية في يد السلطات المحلية لتعزيز نفوذها، وكذلك وسيلة لممارسة "الجهاد البحري" ضد المسيحيين في نظر الكثير من المشاركين. العثمانيون استخدموا القراصنة كذراع غير رسمي للضغط على أوروبا، بينما استفادت مدن كـ الجزائر وتونس وطرابلس من العائدات المالية لأسواق العبيد.
نهاية عصر القرصنة البربرية
بدأت نهاية هذه الظاهرة مع بدايات القرن التاسع عشر، حين شنت الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا حملات عسكرية ضد موانئ شمال إفريقيا. كانت حروب الولايات المتحدة ضد طرابلس (1801–1805) أولى المواجهات البحرية الخارجية لأمريكا. ثم جاءت الحملة الفرنسية على الجزائر عام 1830 لتُنهي فعليًا القرصنة البربرية.
خاتمة: ذاكرة منسية يجب استعادتها
الحديث عن العبودية البيضاء في شمال إفريقيا لا يقلل من بشاعة العبودية في أي مكان آخر، لكنه يسلط الضوء على مدى تعقيد وتشابك التاريخ البشري. استعباد الإنسان لأخيه الإنسان لم يكن مقتصرًا على لون أو دين أو منطقة، بل كان جزءًا من واقع مرير يحتاج إلى مواجهة شاملة، وفهم متوازن.